دراسة في ضوء مصادر محلية
تتناول هذه الدراسة توجهات حركة تركيا الفتاة المتعلقة بالمواطنين العرب في الدولة العثمانية، في المدة الزمنية، من العام 1908 حتى نهاية الحرب العالمية الكبرى، مع تركيز خاص على سكان متصرفية القدس. وتطرح هذه الدراسة، بناءً على مصادر محلية، وتحديداً أوراق شخصية ويوميات ومذكرات لمقدسيين تعود إلى المرحلة المذكورة، الصدع في العلاقة بين عرب فلسطين والحكام الأتراك، الذي كان واضحاً للعيان.
لم تُدرس مدة حكم جمعية تركيا الفتاة لفلسطين بصورة مناسبة، فمعظم الدراسات المنشورة حول هذه المدة مكرّسة لدراسة النشاط الصهيوني وعلاقات اليهود بسكان فلسطين العرب، أو لأحداث ترتبط بالإمبراطورية العثمانية، وخصوصاً فيما يتعلق بإدارتها لأراضيها الأوروبية. ويمكن تبرير هذا الأمر جزئياً لما يمكن أن نطلق عليه الهوس بالصهيونية وبصراع فلسطين-إسرائيل، وأيضاً بسبب القدرة المحدودة على الوصول إلى الوثائق الرسمية العائدة إلى تلك المدة في السجلات العثمانية باستانبول. في العقود الأخيرة، على أية حال، فإن عدداً من اليوميات والمذكرات من فلسطين عن تلك المدة قد أصبحت بمتناول اليد، وهي، إلى حد ما، تملأ الفجوة المتعلقة بالمصادر الأساسية حولها.
وتدرس هذه المقالة الأحداث السياسية والاجتماعية التي جرت في فلسطين، والقدس بصورة خاصة، في الأعوام الأخيرة من الحكم العثماني، التي تولّت فيها جمعية الاتحاد والترقّي مقاليدَ الحكم. وتناقش هذه الدراسة أيضاً أثر صعود تركيا الفتاة إلى سلّم السلطة في نمو الشعور بهوية محلية، وربما شعور أوسع بقومية عربية في فلسطين، وتحديداً في متصرفية القدس العثمانية.
على الباحث أن يأخد عدداً من العناصر في حالة دراسة فلسطين في زمن الحكم العثماني المتأخر، وأول هذه العناصر هو طبيعة النظام العثماني نفسه وحكمه في بلاد الشام وفلسطين؛ أما العنصر الثاني فهو الحياة في فلسطين في أثناء الحرب العظمى وقبلها من ناحية السكان، الهجرة اليهودية، ووجود رعايا أجانب فيها، وتحديداً في القدس، بما في ذلك وجود أو عدم وجود بعثات دبلوماسية في المدينة والقضاء المحيط بها؛ والعنصر الثالث، هناك السؤال حول الوضع الدولي الذي أنتج الحرب العظمى واشتراك الدولة العثمانية فيها إلى جانب ألمانيا والإمبراطورية النمساوية-الهنغارية، وهي قضية مهمة لكنها خارج نطاق هذه الدراسة.
كما ذُكر، تستند الدراسة أساساً إلى مصادر غير مدروسة بكثرة مثل المذكرات والأوراق الشخصية والعائلية العائدة إلى تلك المرحلة، وتضم هذه المجموعة من المصادر يوميات ورسائل خليل السكاكيني، التي يقدم فيها رؤى حول النخبة في القدس، قبل الحرب العظمى وبعدها.
كان السكاكيني مثقفاً ومن رجال التعليم في القدس، وقد اعتاد حضور الاجتماعات والمناسبات الاجتماعية مع الشخصيات القيادية والمتنفذة في المدينة في تلك المدة مثله مثل إحسان الترجمان، الجندي العثماني المقدسي وصاحب يوميات نشرت حديثاً، وقد كان كلاهما على علاقة ومعرفة شخصية بعضهم ببعض، ومذكرات الترجمان تلقي الضوء على ما دار في خلجات مجنّد عادي في القدس حول الحرب، وتعطينا تصوراً محلياً عن الإدارة العثمانية والأتراك والحرب. كما ويروي واصف جوهرية، وهو موسيقي من القدس، تفصيلات عن الحياة الاجتماعية للأعيان وللناس العاديين في المدينة في سنوات الحرب العظمى.
تبين هذه المصادر وغيرها بوضوح أن الناس في فلسطين كانوا متباينين في توجهاتهم تجاه حكامهم. ونجد أيضاً آمالاً عرضة للتخلص من الحكم الاستبدادي للسلطان عبد الحميد الثاني، ممزوجة بالاستياء من مساعي تتريك الدولة.
إطار الدراسة
خضعت فلسطين وسائر بلاد الشام للحكم العثماني في العقد الثاني من القرن السادس عشر، وقد سيطر على المنطقة في القرون العثمانية تقليد سياسي وإداري، تقاطع في حالات كثيرة مع نظام المماليك ومثّل استمراراً لهذا النظام، الذي حكم بلاد الشام منذ منتصف القرن الثالث عشر حتى 1516/1517. اعتمد النظام الإداري العثماني إلى حد كبير على قوة جيوش الإمبراطورية وهيبتها، سواء أكانوا من الإنكشارية أم السباهي، أم لاحقاً من جنود ما عرف بـ "النظامي جديد". وفي الواقع، إن البعض من أقوى حكام السلطنة قد صعدوا من بين صفوف العسكر.ومن الممكن أن يكون ذلك، كما يشير المؤرخ نعيم طرفان، بسبب حقيقة أن الدولة نفسها بناها سلاطين غزاة ومحاربون، استولوا لاحقاً على السلطة في الإمبراطورية. وربما تفسر لنا هذه الحقيقة لماذا دُمجت الأراضي العربية جيداً في النظام الإمبراطوري العثماني، ولم يدمج سكانها العرب تماماً، حيث كانوا غائبين عن مراكز الحكومة العالية في كل القرون الأربع من الحكم العثماني، فلم يكن أي عربي من بين المئتين وخمسة عشر صدراً أعظم ممّن تولّوا رئاسة الحكومات في تاريخ الإمبراطورية، مع استدراك أن ثلاثة منهم كانوا من أصول عربية. إن هذه مسألة مهمة، وخصوصاً في ضوء حقيقة أنّ ثمانية وسبعين منهم فقط كانوا أتراكاً، بينما جاء العديد من الآخرين من صفوف الجماعات الإثنية والوطنية الأخرى في الإمبراطورية. وقد يفسر هذا إلى حد ما العداء العربي للأتراك، وخصوصاً في العقدين الأخيرين من تاريخ الإمبراطورية.
على أن هذا لا يفسّر بوضوح لماذا لم يشغل المسلمون العرب من بلاد الشام مناصب عالية في صفوف الدولة، ولا يفسّر أيضاً لماذا كانت المناصب التي شغلها هؤلاء في أغلب الأوقات في مراكز المحاكم الشرعية. لقد كان اليهود والمسيحيون العرب مدة طويلة جزءاً من النظام الملّي، حيث كان لهم حقوق وعليهم واجبات، وكانوا تحت سيطرة قيادتهم الدينية. وقد تفسّر هذه الحقيقة بذاتها بعض الارتباطات الخاصة لهم مع إخوانهم في الدين خارج الإمبراطورية. خدم العرب من جميع الخلفيات الدينية في الفضاء المحلي في مختلف إدارات المدن والقرى والتجمعات.
لذا فإنّه من المنطق الاستنتاج بأن إصلاحات القرن التاسع عشر، التي عرفت بالتنظيمات كان لها تأثير سلبي في الموظفين العرب، فعلى سبيل المثال فإن فرمان الإصلاحات المعروف بخطّي همايوني الصادر بتاريخ 18/ شباط 1856 قد أعلن "المساواة بين جميع الأديان في الإمبراطورية"، ومنح "المواطنين العثمانيين فرصاً متساوية في دخول المؤسسات التعليمية، والمساواة في معاملتهم أمام القانون". وتم إلغاء القانون الملّي ووضع سلطة الحكومة. لقد تهمشت في هذه المرحلة وضعية الموظفين العرب، الذين كان لهم أدوار مهمة في القضاء والمناصب الدينية، وذلك نتيجة لتدني موقع المؤسسات الدينية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن ثورة تركيا الفتاة سنة 1908، كانت قد نتجت جزئياً من إعادة العمل بالدستور، الذي بحد ذاته كان نتاجاً من إنتاجات عهد التنظيمات، التي أكدت على الإصلاحات المذكورة. لا تقلِّل من هذه النقطة حقيقة أنّ بعض هذه الإصلاحات، لم يتم تطبيقها بنجاح على أرض الواقع في فلسطين؛ أو كما في بعض الحالات حين تمّ تنفيذها قبل مدة أسبق بكثير من تاريخ إقرارها على شكل قوانين، وكما اقترح دوماني بالنسبة إلى قانون الأراضي 1858. بالإضافة إلى ذلك فإن الثورة، وعلى الرغم من أنّها أنتجت حالة ليبرالية وتخفيفاً عامّاً من سياسات القهر التي كانت سائدة سابقاً، ووعدت بإصلاحات أساسية وكبيرة، لم تمثِّل محاولة لتحدي حقيقي وجاد للنظام العثماني السائد. فلم تكن جمعية الاتحاد والترقي نفسها وفي جوهرها حركة تقدمية، على الرغم من انقلابها على السلطان عبد الحميد الثاني وإنهاء حكمه، وعلى الرغم من شعاراتها "حرية، مساواة، إخاء، عدالة". وعلى الرغم من أن الحكام الجدد أعلنوا "المساواة بين جميع العثمانيين بغض النظر عن الدين أو العرق"، تبقى حقيقة أن أغلب هذه الوعود لم تطبق أو تنفّذ. لقد توقف زمن حرية الصحافة وحرية الاجتماع وتشكيل الأحزاب، قبل مدة من دخول السلطنة العثمانية بالحرب الكبرى رسمياً.
تصوير الحرب في المصادر المحلية
كتب خليل السكاكيني في يومية 15 أيلول 1914 من مذكراته اليومية، أي قبل شهر ونصف من الاشتراك الرسمي للعثمانيين في الحرب، معلقاً على منع الصحف في فلسطين: " لا يقرأ الناس اليوم غير التلغرافات، لأنّ أكثر الجرائد المحلية عطلت والجرائد المصرية منعت [من قبل الحكومة]".
هل من الممكن أن يكون الإحباط الواضح الذي يعبر عنه السكاكيني بخصوص "لا يقرأ الناس"، ليس فقط إحباطاً من الرقابة ومنع الصحف، بل أيضاً انعكاس للاتجاه السياسي الجديد الذي أخذ يظهر في فلسطين، والمتعلق بقضايا الهوية والعلاقة مع الحكم العثماني؟ إن السؤال نابع من أن النشاطات القومية آنذاك ارتبطت بالنشاط الأدبي عبر الجمعيات التي عنيت باللغة والثقافة كمعلم مهم للهوية القومية. وللإجابة عن هذا السؤال علينا العودة إلى أعوام ما قبل الحرب العظمى، وتحديداً إلى عام 1911، حيث تسببت حادثة بالقدس في بِدء ما يمكن اعتباره الدلائل الأولى على تعبئة عربية صاعدة في فلسطين، والرغبة في تحدي السلطات المركزية في استانبول. ففي أعقاب اكتشاف إدارة الوقف الإسلامي أن فريقاً من المنقبين الآثاريين الإنكليز كانوا يقومون بحفريات أثرية في منطقة الحرم استنفرت النخبة المقدسية لإيقاف ذلك. لقد انصب غضب الأعيان على السلطات المركزية في استانبول، وأيضاً على حكام المدينة العثمانيين المحليين، وخصوصاً عندما أصبح واضحاً أن فريق التنقيب كان يعمل بترخيص من السلطات في استانبول. لم يستغرق الأمر طويلاً حتى تشترك النخب في المدن الفلسطينية الأخرى في الاحتجاج، أرسل أعيان نابلس من عائلات طوقان والتميمي والنابلسي وحماد وعبدو رسائل احتجاج إلى البرلمان العثماني وإلى مشيخة الإسلام في استانبول يحتجون فيها على التنقيب في الحرم. وأرسل الحاكم تقريراً إلى السلطات في بيروت يحتجّ فيها على عملية التنقيب.
يحظى احتجاج الأعيان بالأهمية، وخصوصاً في ضوء حقيقة أنه جاء بعد ثلاثة أعوام فقط من احتفال المناطق العربية بحماسة، بوصول تركيا الفتاة إلى السلطة. وتزودنا ذكريات واصف جوهرية بوصف لهذه الاحتفالات، حيث يوضِّح كيف احتفلت القدس بأخبار نجاح انقلاب تركيا الفتاة في العام 1908:
حدث الانقلاب العثماني في 11 تموز 1908 في الآستانة، وكانت فرحة لدى الحكومة وخاصة الشعوب العربية في البلاد، فكانوا يسمّون هذا الانقلاب بالحرية.....كما هو معلوم لدى العموم بأن الذي قام بهذا الانقلاب هم قواد الجيش المعروفين بجمعية الاتحاد والترقي، وعلى رأسهم نيازي وأنور وجمال وغيرهم، وانتصروا على خلع الطاغية السلطان عبد الحميد الذي حكم مدة طويلة من الزمن، تنوف الثلاث والثلاثين سنة، حكم البلاد بالنار والظلم والاستبداد....وأني أذكر هذه الأيام.....فكانت مدينة القدس شعلة من الأنوار، فلم يبق منزل ولا عمارة ولا معهد ولا دكان ولا شارع إلاّ مناراً بالشموع.
وصف جوهرية بالتفصيل وبنبرة محبذة كيف كان باب العامود (بوابة دمشق) مزيناً، وكيف أقامت السلطات أربعاً من أقواس النصر في المنطقة بين باب العامود والنوتردام الفرنسي إلى الغرب. ونجد في مذكراته أيضاً وصفاً لما اعتبره هو تأثيراً للانقلاب في القدس. ونجد في ثنايا ما كتب جوهرية من ذكريات وصفاً لكيف أثّرت الثورة في الوضع الاقتصادي في المدينة، فنتيجة للانقلاب العثماني ولمنح الحريات للجماهير، سعى السكان في المناطق العربية لأن يحسنِّوا من أحوالهم الاجتماعية والسياسية، وزادت رغبتهم بتلقي العلم.
في الحقيقة، وعلى ما يظهر، فإن وجهة النظر هذه تسيطر على القسم من مذكرات جوهرية، الذي يتناول زمن ما قبل الحرب. ولا يبدو أن التغير في الحكومة والصراع بين التوجهات السياسية المتعددة داخل جماعة الاتحاد والترقي كان له أي تأثير في وجهة النظر هذه، وهو حتى لا يذكرها. على أية حال، فإن حماسة جوهرية الظاهرة بدأت تتلاشى بعد عدة أعوام لاحقة، حين يشكو سنة 1914 من الضرائب التي تطلبها الحكومة، حيث كانت جيوشها قد دخلت الحرب العظمى، كتب جوهرية مستذكراً الوضع الاقتصادي المتردي في القدس، يقول:
مرّ وقت طويل في القدس زادت الحكومة التركية الطلبات من الشعب بمناسبات كثيرة مثل مساعدات لشراء السلاح، مساعدات لتقوية الجيش، مساعدات لجمعيات الهلال الأحمر، مساعدات حربية وهكذا، وكانت الحالة المالية سيئة جداً وليس في الإمكان تحمل هذه الطلبات والضرائب، وبذات الوقت لا يوجد من يستطيع أن يرفض طلباً من هذه الطلبات، وكان ولا شك زمن الظلم والاضطهاد.
يمكن لهذا الظلم أن يوضح السلوك الغريب لجار الجوهرية، ميخائيل، الذي علّق صوراً للسلطانَين عبد الحميد ومحمد رشاد في مرحاضه. وكان ميخائيل يذهب عادةً إلى المرحاض كي يضرب الصورتين بحذائه، قائلاً: "إنكم ترهقوننا بضرائبكم." إن للاحتفاظ بصور كل من عبد الحميد الذي خلعته تركيا الفتاة، ومحمد رشاد الذي قاموا هم بتعيينه، دلالة مهمة، وهو ما يؤكده وصف جوهرية للمرحلة هذه على أنها "زمن الاستبداد". إن جمع جوهرية لكلا المرحلتين، وهو الشخص الذي أشاد بالانقلاب لكونه وضع حداً للاستبداد الحميدي، يبدو أنه مؤشر على تطور جديد في الطريقة التي نظر بها العرب لحكامهم الأتراك. ولم تكن هذه الشكوى المتعلقة بالأوضاع الاقتصادية مقصورة على جوهرية، بل لها مثيل في يوميات إحسان الترجمان، فقد كتب في يومية دوّنها في مذكرته في 10 تموز 1916:
لم تر القدس أياماً أمرّ علينا وأصعب من هذه الأيام من جهة الأكل والشرب، انقطع الخبز والقمح بالمرة في هذه المدّة...وإني أذكر مرة أنني فيما كنت نازلاً من المنزل [العسكري] إلى البيت في الساعة الحادية عشرة، رأيت النساء آتين من الأفران ولا أعلم إذا كنّ أخذن خبزاً أم لا. وقد وزعت البلدية عدة أيام خبزاً أسمر، لم أر قط طيلة حياتي مثله. وقد كانت الأهالي تتصارع على أخذ مثل هذا الخبز، وينتظرون حتى منتصف الليل. ولكنه تغير نوعاً [الآن] ولله الحمد".
العلاقات العربية-التركية
رغم مظاهر عدم الرضا هذه، إلاّ إنّ العلاقات بين العرب والأتراك لم تصل إلى طريق مسدود إلاّ بعد سنةٍ واحدةٍ على الأقل من الحرب. ويوجد دلائل قليلة على أن العرب نادوا بفكرة الانفصال عن الإمبراطورية على الرغم من تذمرهم من المظالم العظيمة، التي لحقت بهم من الحكومة العثمانية. ويبدو أن حالة من التعاون والتفاوض بين الاتحاد والترقي وبين الحركة القومية العربية الصاعدة أخذت وضعها قبل بداية الحرب. وفي الحقيقة، فإنّه في حالات معدودة اختارت الاتحاد والترقي دعم ممثلين من الحركة العربية الصاعدة على حساب مصالح حزبهم. من مثل ذلك ما حدث في أثناء الانتخابات البرلمانية سنة 1914، عندما دعموا مرشحين عرباً، كانوا قد نافسوا مرشحي حزبهم نفسه. ففي عكا على سبيل المثال، قامت السلطات باعتقال أنصار الشيخ أسعد الشقيري، مرشح الاتحاد والترقي، لتمكين منافسه القومي العربي عبد الفتاح السعدي من الفوز. وفي نابلس، أجبر عضو الاتحاد والترقي، حيدر طوقان، على تحمل الخسارة أمام مرشحي المعارضة. وعلى أية حال، فإنّه يجب رؤية هذه الظاهرة بصورة أساسية على أنّها محاولات من قبل أفراد قلائل من القيادة لحماية الإمبراطورية، لا على أنّها مسعى جاد وحقيقي لرؤية العرب على قدم المساواة مع الأتراك. في واقع الأمر، فقد تم خطف جماعة الاتحاد والترقي من قبل مجموعة صغيرة من الناس، حتّى بعد تضخم عدد الأعضاء (في سنة 1908 كان للحزب 83 فرعاً في مختلف الأنحاء من الإمبراطورية، وكان هناك ما مجموعه 850,000 عضو).
في حين انضم الكثيرون إلى الحزب من منطلق القناعة به، فقد انضم عدد كبير لأسباب أخرى متعددة: كان منها الضغط؛ والمصالح الشخصية أو الاقتصادية؛ أو ببساطة بدافع حب الاستطلاع، فعلى سبيل المثال، تلقى خليل السكاكيني في بيته بتاريخ 25 أيلول 1908 دعوة من زائره الشيخ توفيق الطنبقا إلى الانضمام إلى جمعية الاتحاد والترقي، وقد وجّه له السكاكيني عدداً من الأسئلة، وطلب منه إمهاله عدة أيام حتّى يفكر في الأمر، وبعدها أقسم السكاكيني في جلسة سرية اليمين على الحفاظ على الدستور وأن يسعى لرفع الوطن، وأن بقوم بما تعهد به إلى الجمعية [الاتحاد والترقي]. لا يوجد في سائر يوميات السكاكيني حول تلك المرحلة ما يشير إلى أنه كان عضواً فاعلاً في الجمعية، وفي الحقيقة فإنّه أصبح بعد وقت قصير للغاية من أداء القسم داعياً إلى القومية العربية والوطنية السورية.
على الرغم من وعود الاتحاديين بالمساواة في الإمبراطورية ومن نغمتهم التوافقية للقوميين العرب، فقد كان من الواضح أن قادة جمعية الاتحاد والترقي لم يثقوا بأحد عدا الأتراك. لقد وضعها طلعت بيك، باشا لاحقاً، بكل وضوح في اجتماع لفرع الجمعية في سالونيك عقد سنة 1910، أربع سنوات قبل نشوب الحرب العالمية، حين قال إنّه لن يكون هناك مجال للبحث في قضية المساواة إلى أن ننجح في عثمنة [تتريك] الإمبراطورية. وعلى الرغم من أن طلعت كان يشير إلى الفشل في استيعاب غير المسلمين من مناطق البلقان واليونان (الذين أطلق عليهم مسمّى الغير ghiaur)، فإنّ عباراته كانت تنطبق على كل من لم يكونوا أتراكاً في الإمبراطورية، حيث إن ارتكازه الأساسي كان متعلقاً بالعثمنة. ففي وقت كان فيه كل الناس عثمانيين، وخصوصاً بعد إعادة العمل بالدستور، فإنّ العثمنة لا يمكن أن تعني شيئاً خلاف تتريك غير الأتراك في الإمبراطورية، بمن فيهم العرب والأرمن والآخرون. لقد تبنى قادة تركيا الفتاة أيديولوجية الجامعة الطورانية (Pan-Turanianism)، وخصوصاً بعد الهزائم التي وقعت للإمبراطورية في طرابلس الغرب وفي البلقان. وكما يطرح زين زين فإنّ "صدمة المصيبة" الناجمة عن الخسائر الحربية بين الأعوام 1911 و1913، قد أدت إلى انتشار واسع "لرغبة أكيدة في عملية إحياء قومي بين كافة المتعلمين الأتراك". وبالتالي يمكن الادعاء بأنّ نعرة العداء للعرب كانت واضحة ومنتشرة في أوساط الأتراك عشية الحرب العالمية الأولى. بيد أن صعود توجّه حركي انفصالي في البلاد العربية لم يكن ظاهراً. بالأحرى، كان قادة العرب ينادون بدولة عثمانية لامركزية مؤلفة من شعبين، واحد عربي والآخر تركي. في الوقت نفسه، أصبح الحديث في صفوف الاتحاد والترقي عن "المسألة العربية" شائعاً وعمومياً، دون ذكر الإشارات الواسعة للمسؤولين الإنكليز بعد دخول الأتراك الحرب. بعد عشرة أيام فقط من دخول السلطنة الحرب، أخبر أنور باشا، وزير الحربية، جمال باشا أنّ "الأخبار الواردة من سورية تشير إلى اضطرابات عامّة في البلد، وإلى تحركات نشطة وعظيمة من جانب الثوريين العرب". لقد كان هذا السبب وراء إصدار أنور باشا تعليماته لجمال باشا بقيادة الجيش الرابع، وهو ما أوصل الأخير بعد وقت قصير إلى سورية، حيث طبّق سياسات قمعية ظالمة ضد رعاياه العرب. أرسل إصرار جمال باشا على تنفيذ أحكام الإعدام بحق القادة العرب بدايةً في بيروت في آب 1915، ثمّ في دمشق سنة 1916، رسالةً واضحةً أنه لن يتسامح مع أية ميول قومية عربية. وتمّ تنفيذ إعدامات مشابهة في مدن سورية ولبنانية وفلسطينية متعددة، بما فيها القدس في عدة حالات.
وبناءً على الانطباع الذي يخرج به القارئ لمذكرات جمال باشا، فإنّه من الواضح أنّ الأخير، ورغم أنّه كان سياسياً يدعو إلى الشراكة والتعاون العربي التركي، كان يضمر مشاعر معادية للعرب. وكان هذا بالغ الوضوح في معاملته لأولئك المحكومين بالإعدام ولرعاياه العرب، كما في توجهاته ومعاملته للأمير فيصل ولوالده الحسين بن علي، شريف مكة. غالباً ما يشير جمال باشا إلى العرب في هذه المذكرات على أنّهم خونة غدّارون، ويتعرض لنفاق العرب عموماً. وفي السياق نفسه، إنّ دعاة العروبة كانوا أيضاً يغيِّرون من نبرتهم ومن سياستهم، ويتجهون ببطء وتدريج أكثر نحو الانفصال عن الأتراك. كان المزاج العربي العام يتغير، وبالتأكيد فقد أدّت سياسات جمال باشا القاسية دوراً أساسياً في تغير المزاج العام في فلسطين على وجه التحديد. ومع ذلك، فإنّه لم يكن ممكناً القول إنّ العرب قد نفضوا أيديهم تماماً من الإمبراطورية إلاّ بعد عامين من الحرب. إنّ ما هو واضح في هذه الحالة هو أنّ سكان فلسطين كانوا مرتبطين عضوياً بسكان سورية ولبنان، وأنّ مواقفهم اتبعت مواقف الصفوة والقادة في هذين البلدين.
هوية المقدسيين
يزوِّدنا إحسان الترجمان، الجندي المقدسي في الجيش العثماني المرابط بالقدس، بنظرة داخلية حول مسألة الهوية هذه، عندما يدوّن التالي في مذكرات يومياته بتاريخ 25 أيلول 1915:
هل تريد الدولة الجنكيزية [نسبة لجنكيز خان] الوحشية البربرية أن تذهب وتملك مصر على ظهورنا وتخربها حتى تصير الأهالي والعالم أجمع يطعن من خطى خطوة واحدة هناك في سبيل تخليص مصر. أنا لا أريد أن أذهب ولماذا أذهب؟ هل لأنّهم يعدونني ويعدون إخواني العرب [أن نكون] شركاؤهم في الملك؟ أم هل لأنهم سعوا في الماضي، ويسعون في الحاضر لترقية الأمة العربية؟ وماذا رأينا منهم؟ هل أذهب لأنهم قتلونا مادياً وأدبياً؟ أذهب هناك وأهرق دمي هدراً؟ إن حياتي والله لعزيزة. لو كانت الدولة دولة راقية وعاملتنا معاملة حسنة فأنا ومالي وحياتي وكل شيء فدا للوطن. ولكن ونحن على ما نحن فيه نقطة واحدة من دمي تساوي جميع ما في الدولة التركية.
يبين هذا النص بوضوح تام أن المزاج العام في القدس، واستطراداً في فلسطين وسورية، كان معادياً للأتراك. كانت هذه وجهة نظر شخص واحد فقط، ولكن حين الأخذ بعين الاعتبار الدوائر التي كان الترجمان يتحرك فيها، يمكن اعتبار آرائه ذات تمثيل عام أكثر من قصرها عليه. لقد كان مقرباً من رئيس البلدية، حسين الحسيني، وكان زائراً منتظماً لمنزل خليل السكاكيني، بالتالي كان على اتصال بالحلقة المحيطة به من الأصدقاء. تكررت هذه الميول والمواقف من الحرب ومن السلطة [العثمانية] في استانبول في مذكرات القنصل الإسباني في القدس آنذاك، أنطونيو دي لا سيرفا ي لويتا (Antonio de la Cierva y Lewita)، ففي يومية له دوّنها بتاريخ 16 شباط 1915، لاحظ القنصل دي لا سيرفا "العرب غاضبون من الأتراك حيث إنهم أرسلوهم للموت". تتطرق اليومية بعد ذلك لما اعتبره القنصل وعياً قومياً ضعيفاً بين العرب مقتها، فيقول القنصل إنّهم "غير قادرين على مقاومة الظالمين"، وموضحاً بأن العرب لا يمتلكون وعياً بروح القومية". على أنّه قد ثبت خطأ هذا الادعاء في ضوء الأحداث التي تكشفت في الأشهر القليلة اللاحقة، مثال واحد يشكّل تحدياً لادعاء القنصل الإسباني، يرتبط بتأسيس جمعية الهلال الأحمر العثماني بالقدس سنة 1915. ففوراً عقب قرار السلطات السريع بطرد لحسين الحسيني من منصبه كرئيس للبلدية، ومعه سائر أعضاء المجلس، تحرك الحسيني نحو تأسيس فرع الجمعية. ومن الممكن جداً أن تكون مثل هذه الحركة قد صمِّمت لتكون الجمعية قوة مؤسساتية موازية للمجلس الجديد، نقيضاً لأعضاء المجلس المعينين حديثاً، وأغلبهم كانوا أتراكاً وكلهم من المسلمين، كان جميع أعضاء مجلس إدارة فرع جمعية الهلال الأحمر من السكان المحليين، وكانوا من فئات دينية متعددة. إلى جانب الحسيني، الذي أصبح رئيساً للفرع، فقد جاء الأعضاء من صفوف العائلات المقدسية المعروفة التي كان منها مسيحيون ويهود، ولم يكن من بين الأعضاء تركي واحد.
من الأهميةً أكثر تسليط الضوء على "الأهمية الاجتماعية" أكثر من التبعية الدينية. تكون مجلس إدارة الجمعية من خمسة أعضاء آخرين، يهوديان محليان بارزان، مسيحيان بارزان، مسلم واحد. بصورة ما فقد كانت الجمعية تتعلق أكثر بالتمثيل المحلي والتضامن المجتمعي من ما كان الأتراك يطلبونه. وكما تقترح جاكبسون، فإنّ تشكيل مجلس الجمعية كان علامة على بديل ما بعد العثمانيين، الذي كان الحسيني قد بدأ يدعو له. على أنّ بديله هذا، ولسوء الحظ لم يكن له تأثير دائم. أشارت جاكبسون إلى أنّه من المحتمل أنّ هذه الجمعية كانت آخر منظمة مجتمعية خدم بها متطوعون يهود، إلى جانب مسلمين ومسيحيين في خدمة حكومة وطنية.
بعيداً عن أن يكون الحسيني رائداً في مجال العلاقات البينية للفئات الدينية المتعددة في المدينة، فإنّه حافظ على وضعية التعايش المشترك، التي كانت سائدة آنذاك. إنّ أفضل دليل على الاختلاط الديني في نسيج مجتمع القدس، ومرة أخرى في مذكرات واصف جوهرية، فعبر مذكراته من المرحلة ما قبل ثورة تركيا الفتاة، ومرحلة ما بعدها، يصف جوهرية لقارئه مدى غنى الحياة في القدس وعمق تعددها الديني، يرسم بتصويره للممارسات التعبدية لكل فئة دينية، وللدور الذي كان يقوم به أشخاص من أتباع أديان أخرى، صورة فسيفسائية يتجسد فيها التضامن الاجتماعي معلماً أساسياً، فعلى سبيل المثال، وكمسيحي أرثوذكسي-يوناني، يظهر أنّه حضر كل الاحتفالات الدينية في المدينة، سواءً أكانت إسلامية، مسيحية أم يهودية. كتب جوهربة يصف احتفالات ليالي شهر رمضان في أيام طفولته في أوائل القرن العشرين:
فكثيراً كنت وإخواني نشارك بحفلة الذكر في مقام الشيخ ريحان المجاور لدار الجوهرية، وننشد معهم الأناشيد الدينية مع المحترفين والهواة منهم. ثم في الليالي نزور جيراننا، منهم الشيخ محمد الصالح الأستاذ الأكبر والشيخ أديب جودة.....وغيرهم، ونقضي الليالي بالطرب، خصوصاً عندما آخذ طنبورتي فأعزف وأغني مع أخي توفيق ونشرب الشرابات وتأكل البرازق والحلوى في منتهى السرور والبهجة.
يصف جوهرية بطريقة مماثلة النزهة اليهودية السنوية (الشطحة) في المدينة، التي اعتاد "مسلمو ومسيحيو القدس المشاركة". كانت النزهة تتم في منطقة الشيخ جرّاح شمال المدينة، تتضمن زيارة لقبر من يعتقد اليهود أنه شمعون الصدّيق، وقد اعتاد اليهود على زيارة القبر مرتين في السنة وعلى قضاء كامل النهار في ظل أشجار الزيتون، "وكانوا، وأكثرهم من اليهود الشرقيين الذين يحافظون على العوائد الشرقية وخصوصاً العربية في البلاد، ومنهم جوقات موسيقية وترية. أذكر حاييم عازف العود والكمان، وزاكي من حلب ضارب الدف وله الصوت العالي المشبع ويغنّي غالباً الموشحات الأندلسية وبعض الخياكي، يقضون الأوقات الجميلة طيلة النهار بالغناء والأهازيج، وهكذا كان العرب من أهالي القدس المسلمين والمسيحيين يشاركون الجماهير اليهودية".
انعكست المرونة بين مختلف الفئات في ممارسات نظام التعليم المحلي الجديد في المدينة، كما كان في المدرسة الدستورية، التي أسسها خليل السكاكيني بالاشتراك مع علي جار الله وجميل الخالدي بعد الثورة، فقد كانت سياسة المدرسة هي عدم استخدام العقاب الجسدي تماماً، مثلما كان الحال في المدارس التبشيرية في المدينة آنذاك. كتب السكاكيني في يومية الأحد 1 كانون الثاني 1911:
قد مضى الآن عام ونصف على تأسيس مدرستي الدستورية..... تمتاز الدستورية بمزايا عديدة:
جمعت بين التلاميذ على اختلاف المذاهب والنحل [....].
المبدأ الذي تقوم عليه المدرسة إعزاز التلميذ لا إذلاله، تكبير نفسه لا تصغيرها، إنماء عواطفه وميوله وتهذيبها لا محاربتها أو إهمالها، ولذلك فمن أهم شروطها أن لا قصاص فيها...
لقد حضر واصف الجوهرية وأخوه توفيق المدرسة الدستورية بعد أن أخرجهما أبوهما من المدرسة اللوثرية الألمانية (الدباغة)، بعد تعرض واصف لاعتداء بالضرب من قبل أحد المدرسين. يصف جوهرية التعليم الذي تلقاه في مدرسته الجديدة، فيسرد المواد التي كان عليه دراستها، والتي شملت "القواعد، الأدب العربي، الحساب، اللغة الإنكليزية، اللغة الفرنسة، اللغة التركية، التربية الرياضية، القرآن الكريم، أي القرآن لغير المسلمين. تمثَّلت هذه الروح العلمانية ذات التعددية الثقافية في حياة جوهرية نفسه، فقد نشأ في حي يسكنه أتباع أديان متعددة في البلدة القديمة من القدس، وتعلّم أن يحب ويحترم الآذان، وكبُرَ ليصبح موسيقياً ضمن مجموعة من الموسيقيين المنتمين لمختلف المذاهب الدينية.
أعطي واصف اسمه تكريماً لشخصية قيادية عربية، واصف بيك العظم من دمشق. في الوقت نفسه، وبعد تجنيده في خدمة البحرية العثمانية في البحر الميت في أثناء الحرب، فقد صادق عدداً من الضباط الأتراك، وكان مولعاً برواية مغامراته معهم. بطريقة ما جسَّد جوهرية الهويات المتعددة آنذاك، سواء المعروفة والشائعة أو المتشكلة حديثاً: العثمانية، العربية، المقدسية، والمسيحية العربية.
رغم ذلك يبدو أنّ مصطلح "الهوية العثمانية" قد أخذ يتآكل ويختفي مع تقدم الحرب. يظهر هذا الإحساس جلياً مبثوثاً في ثنايا يومياته حول الحرب وحول اشتراك العثمانيين فيها: "دخلت الحرب العظمى وانضمت إليه الدولة العثمانية، وأصبح الشعب العربي مهدداً بالفناء من القائد أحمد جمال السفاح الذي مسك البلاد بأسرها ففتك برجالها المخلصين".
بينما تعكس أقوال جوهرية هذه إحساساً عميقاً بالهوية العربية ومعارضةً شديدةً لسياسات جمال باشا، فإنها تشير أيضاً إلى أنّ انتماءً وطنياً محلياً قد بدأ بالتبلور والظهور، إذ من الممكن أنّ مصطلح "الشعب العربي" كان يقصد به أهل فلسطين أيضاً. يأتي هذا موازياً للتوجه الذي كان خلف البنية التي فكّر فيها رئيس البلدية السابق حسين الحسيني، حين شكّل مجلس جمعية الهلال الأحمر. وصفت جاكبسون هذا التوجه على أنّه "وطنية محلية"، و"يجمع إخلاصاً وولاءً لمدينة القدس كحاضرة محلية ولسكانها من مختلف المذاهب الدينية".
تبدو فكرة الوطنية المحلية واضحةً بجلاء في كتابات خليل السكاكيني، ففي يومية دوّنها في دفتره قبل وقت قصير من اعتقاله من قبل العثمانيين، وسجنه لاحقاً في دمشق، وهي مؤرخة في 2 كانون الأول 1917، أي قبل أيام قليلة من دخول الإنكليز للقدس، كتب يقول:
إني لست إلاّ إنساناً محضاً، أي لا أنتمي إلى حزب من الأحزاب السياسية أو الدينية، بل أعد نفسي وطنياً أينما كنت وأشتغل في ترقية الوسط الذي أنا فيه، سواء كان أميركياً أو إنكليزياً أو عثمانياً، مسيحياً أو إسلامياً أو وثنياً. لا أشتغل إلاّ في خدمة العلم والعلم لا وطن له.. وما هي الوطنية؟ إذا كانت الوطنية أن يكون الإنسان صحيح الجسم قوياً نشيطاً مستنير العقل حسن الأخلاق أنيساً لطيفاً، فأنا وطني؛ وأما إذا كانت الوطنية تفضيل مذهب على مذهب وأن يعادي الإنسان أخاه، إذا لم يكن من بلاده ومذهبه، فلست وطنياً.
أعاد المسؤولون العثمانيون تعيين حسين سليم الحسيني في منصبه رئيساً للبلدية، قبل دخول القوات البريطانية للقدس وسيطرتها عليها، وقد سلّم رسالة تسليم المدينة لهم. لماذا لم يختر المسؤولون الأتراك تسليم الرسالة بأنفسهم والتفاوض من أجل انسحاب مشرِّف لقواتهم؟
ربما يكون هناك أهمية لحقيقة أن الاستسلام نجم عن اجتماع دعا فيه قادة الجيش في المنطقة الأعيان من مختلف الفئات الدينية في المدينة، فهذا يعني أن الأتراك أقرّوا بأن الوطنيين المحليين كانوا هم المتولين لشؤون المدينة، إن هذه حادثة فريدة في تاريخ المدينة، يبدو أن دخول الجنرال أللنبي للمدينة بتاريخ 11 كانون الأول 1917 قد بلغ درجة احتفال وطني، ولم يكن هذا بسبب الإنكليز وما كان في أذهانهم حول مستقبل المدينة، بل لأن سكان المدينة كانوا فرحين لرؤية النهاية للحكم التركي العثماني، وكذلك لانتهاء التجنيد العسكري للحرب. يصف جوهرية استعدادات عائلته للاحتفال بأعياد الميلاد في تلك السنة بالتالي:
رحبنا ونظمنا الدار لتكون جاهزة لاستقبال عيد الميلاد المجيد من سنة 1917، فكان –والحق يقال- عيداً سعيداً على جميع الأهلين بمناسبة الاحتلال البريطاني، وخلاص الشعب العربي من كابوس الأتراك الطغاة. وكلنا أصبح له أمل عظيم في مستقبل أفضل، وخصوصاً لما ذقناه من ويلات الحرب والمجاعة والمرض والبلاء والتيفوس الذي تفشى في طول البلاد وعرضها، فشكراً للباري عز وجلّ الذي أعفى شبابنا جميعهم من الجندية اللعينة.
يبدو أنه، على الأقل لهذه المدة، كان قد عمّ إحساس بالراحة لدى سكان المدينة، بغض النظر عن الانتماء الديني أو التوجه الأيديولوجي.
الخلاصة
تقدِّم اليوميات والأوراق التي نوقشت في هذه الدراسة نظرة عميقة على مشاعر المقدسيين، والفلسطينيين استطراداً، تجاه تركيا الفتاة. وتطوِّر هذه المصادر فهمنا لهذه الحقبة التاريخية، ولتغيرات مرحلتها المتأخرة، وخصوصاً مطالب عرب فلسطين من البريطانيين، والمتعلقة بالحصول على استقلال بلدهم. لقد ساهم حكم تركيا الفتاة في تقدم مشاعر القومية العربية في فلسطين. ويمكن رؤية التضامن المجتمعي كمؤشر على ظهور وطنية محلية، وخصوصاً في فلسطين. شهدت سنوات الحرب وضعاً أصبحت فيه المدينة، وهذه أول مرة منذ عقود طويلة، خاضعةً للنقاش بين سكانها من جهة، وحكامهم الأتراك من جهة ثانية، في مشهد تاريخي غاب عنه أغلب القناصل الأجانب، وخصوصاً أولئك الذين اعتادوا على التدخل في شؤون المدينة، سواء القناصل الروس، أو الفرنسيين أو الإنكليز، وتم فيه وقف الهجرة الصهيونية إلى فلسطين، تقدم أهل القدس نحو المقدمة وبدؤوا بأخذ الأمور بأيديهم. وفي ظل سياسة طرد من يحملون جنسيات الدولة المحاربة للدولة العثمانية، فقد أجبر العديد من المهاجرين اليهود على المغادرة، لقد أصبح اليهود الوطنيون [من سكان القدس الأصليين] مسؤولون عن شؤون جاليتهم الخاصة أكثر من أي وقت مضى، على خلاف ما حصل العهد اللاحق، إذ أخذ المهاجرون الصهاينة الأمور بين أيديهم.
لا شك في أنّ الصعود الأولي لتركيا الفتاة إلى السلطة قد قوّى سكان فلسطين، الذين بدا أنهم حملوا بين جنباتهم آمالاً عريضة بالتغيير. لكن هذه الحالة قادت بسرعة نحو خيبة أمل، لأن تطلعات غير-الأتراك [من المواطنين العثمانيين] لم يتم تحقيقها، وغدت الإمبراطورية منخرطة بالحرب. هناك أدلة على أن التناقض الذي أبداه كتّاب هذه اليوميات والمذكرات تجاه الحكام العثمانيين الجدد كان أكثر اتساعاً مما اعتقده البعض.
[نشر هذا المقال بالاتفاق مع "حوليات القدس"، عن المجلد 11 العدد 12، الصادرة عن "مؤسسة الدراسات الفلسطينية".]